الكاتب أحمد فؤاد الهادي
الكاتب أحمد فؤاد الهادي


«اقتحام» قصة قصيرة قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

صفوت ناصف

الإثنين، 07 أغسطس 2023 - 09:57 م

يمر عشرات المرات من هنا، يسير على الطريق الترابي الموازي للترعة، يعشق هذه اللوحة الجميلة التي أبدعها الخالق، المياه تسري وقد اصطبغت بلون الطمي الذي يوحي بالقوة والثراء في طريقه إلى الأرضي الزراعية ليبعث فيها الحياة فتنبت من خيرات الله ما لذ وطاب فتأكل الناس والدواب وتبيت لله شاكرة مسبحة راضية.

 

أشجار الصفصاف منتشرة بطول شاطئ الترعة وقد انحنت صوب الماء الساري إجلالا حتى لامست فروعها الرشيقة سطح الماء فتصحبه في سريانة قدر ما تسمح به أطوالها فتبدو راقصة منتشيه سعيدة مشيعة البهجة في النفوس.

 

في الإجازة الصيفية يقصدها الصبية وقد تجردوا من ملابسهم فيقفزون في مائها هربا من قيظ الحر واستمتاعا باللهو والسباحة، كم تمنى أن يشاركهم هذه المتعة التي حرمته منها تعليمات والدته المشددة خوفا عليه من الغرق أو الإصابة بالبلهارسيا التي أصيب بها الكثير من الأطفال والمزارعين.

 

كانوا يسبحون في الماء وهو يسبح بخياله ليرى نفسه معهم ومثلهم حتى خيل إليه أنه قادر على فعل ما يفعلون بأيديهم وأرجلهم وقادر على السباحة مثلهم لو سنحت له الفرصة، ليس في حاجة لتعليم أو تدريب، لولا تلك التنبيهات المشددة من أمه.

 

ظلت الفكرة تداعب خياله وتعبث بعقله حتى اقتنع تماما بإمكانية الفرار من الخيال والقفز إلى الواقع، فقط عليه اختيار التوقيت المناسب وإعداد السيناريو الذي يواجه به أمه إذا افتضح أمره.

 

الصبية اليوم متجمعون في ساحة القرية لمتابعة مباراة في الكرة الشراب بين فريقين منهم، لا أحد هنا على شاطئ الترعة بامتداده، اختفى الرجال والنساء كعادتهم في فترة القيلولة، لم يكن يعلم شيئا عن تلك المباراة، لقد جاءت الفرصة مباغتة وعليه اقتناصها.

 

استحى أن يتجرد من ملابسه بالبساطة التي يتجرد بها الصبية من ملابسهم، دلف إلى مصلاه بناها الناس على حافة الترعة وفرشوها بالحصير وجعلوا لها درجتي سلم تؤديان إلى مجرى الماء من أجل الوضوء، خلع ثيابه وكومها في ركن من المصلى.. قصد السلم ... هبط الدرجة العليا ... ما أن لامست قدماه الدرجة السفلى حتى شعر بالماء الساري يداعب قدميه وكأنه يدعوه ليمتع جسده كله بهذا الإحساس الجميل ...

وطأ الماء بقدمه الأيمن.. تبعه بالأيسر ... الأرض طينية زلقة.. في لحظات كان في وسط المجرى فاقدا السيطرة على أي شيء ... يداه ورجلاه تتخبطان بحركات عشوائية.. يغوص تحت الماء ويطفو ... قلبه يكاد أن يتوقف وهو لا يجيد شيئا ممكنا مما تخيل أنه ممكن ... أه لو بلغ الشاطئ!

أدرك أنه هالك لامحالة ... حتى الصراخ لن يسمعه أحد.. تراءى له طيف أمه تصرخ وتلطم خدودها على الشاطئ ...لا مجال للاعتذار أو الأسف.

عندما كلت يداه ارتختا رغما عنه ... وبدت النهاية وشيكة الحدوث.. يداه تتعثران في فرع من السلك الشائك المشدود بين صفصافتين وقد انقطع من أحد طرفيه وسقط ليحمله الماء مجذوبا مع تياره متماوجا تحت سطح الماء... قبض عليه بقوة الإبقاء على الحياة.. غرست الأشواك الصلبة الحادة في كفيه.. كانت الحياة أغلى.. لم يشعر بالألم وتحرك في اتجاه المصلى متسلقا السلك الشائك غير عابئ بالجروح التي تبعثرت على كفيه.

حين بلغ المصلى.. ارتمى وقد تسارعت دقات قلبه.. وصدره يعلو ويهبط في توتر لا يستطيع السيطرة عليه ... الدماء تسيل من كفيه.. زحف إلى مدخل المصلى حيث تراب الطريق.. دس كفيه في التراب عدة مرات.. توقف النزف وبقيت الجروح.

العصر على وشك الولوج.. لابد من مغادرة المكان ... لابد من سيناريو لمواجهة الأم يبرر حالته التي صار إليها:

تعثرت قدمي بحجر ملق بالطريق فانكفأت على وجهي على جرف الترعة وسقطت قدماي في الماء.. كاد التيار الساري أن يسحبني لولا أنني قبضت بقوة على السلك الشائك الممتد بين أشجار الصفصاف وجذبت جسدي بكل قوتي حتى نجوت يا أمي من موت محقق ... تعلمين أنني لا أعرف السباحة!

كذبة متخفية في ثوب الحقيقة التي واجهته فصارت كالحقيقة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة